الإتقان والإحسان في العمل

د. شريف فوزي سلطان

أتقن عملك لأنه أمر الله ورسوله؛ قال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، والإحسان: هو الإتقان والإحكام، وقال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة)؛ (رواه مسلم).

 

وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال: شهدت مع أبي جنازة شهِدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتُهِي بالجنازة إلى القبر، ولم يُمكَّن لها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سوُّوا لَحْدَ هذا)؛ حتى ظن الناس أنه سُنة، فالتفت إليهم، فقال: (أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه)؛ (أخرجه البيهقي في الشُّعب، وانظر الصحيحة).

 

فالمسلم مطالب بالإتقان في أعماله التعبدية والمعاشية؛ إحكامًا وإكمالًا، تجويدًا وإحسانًا؛ قال أحد السلف: "لا يكن همُّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه، فإن أحدكم قد يُصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه" .

 

ولأن الإتقان هو معيار التميز بين المجتهد والمقصر، فكل الناس يؤدون أعمالهم، ولكن الفارق بينهم يكون في درجة إتقانهم لأعمالهم.

ولأن العبرة ليست في أداء العمل فقط، ولكن في الصفة التي أُدِّي بها العمل.

 

أمثلة حية:

إتقان الوضوء:

قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسَن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من أظفاره)؛ (رواه مسلم).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، وتطهَّر فأحسن طهوره، ولبس من أحسن الثياب، ومَسَّ من طيب أهله، ثم أتى الجمعة ولم يلغُ ولم يفرق بين اثنين، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)؛ (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

 

إتقان الصلاة:

وذلك بمراعاة أركانها وواجباتها، والطمأنينة فيها وخشوعها؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للمسيء في صلاته: (ارجع فصَلِّ؛ فإنك لم تُصلِّ).

وسُئلت عائشة رضي الله عنها يومًا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فقالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يُصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا"؛ (متفق عليه).

 

إتقان الصيام:

قال جابر بن عبدالله: "إذا صمت فليَصُم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك سواء".

 

إتقان الزكاة:

بإخراجها في وقتها من أفضل ماله، مُتحريًا في ذلك مستحقيها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ... ﴾ [البقرة: 267].

 

إتقان الحج:

قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196].

 

إتقان تربية الأولاد:

قال صلى الله عيه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يَحُطْها بنُصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة)؛ (متفق عليه).

 

إتقان قراءة القرآن:

قال صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران)؛ (متفق عليه).

عن أبي عبدالرحمن السُّلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل".

 

إتقان التعليم:

المعلم سواء كان إمامًا في مسجد، أو مدرسًا في فصل، أو أستاذًا في جامعة، أو محفظًا للقرآن - فهو بحاجة ماسَّة إلى إتقان العمل؛ لأن هذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عمِل أحدكم عملًا أن يُتقنه)، والتعليم أعظم العمل وأشرفه، وما رأينا التراجع والتخلف والتردي إلا بسبب ترك الإتقان.

 

إتقان الأعمال الدنيوية:

العمل الذي يقوم به الإنسان أمانة والله سائله عنه يوم القيامة، كم من مبنى انهار! وكم من جسر (كوبري) تصدَّع بسبب عدم الإتقان الذي ارتكبه المهندس والمقاول! وكم من أرواح فقدت وراحت هدرًا بسبب عدم إتقان الطبيب! وكم من خسائر فادحة وإسرافات فاضحة بسبب عدم إتقان العمال لأعمالهم، وموت ضمائرهم!

 

سعادة المتقن وشقاء المهمل:

دخل فتى صغير إلى محل تسوُّق، وجذب صندوق مشروبات غازية إلى أسفل كابينة هاتف، ووقف فوق الصندوق؛ ليصل إلى أزرار الهاتف، وبدأ باتصال هاتفي، وصاحب المحل منتبه إلى الموقف ومستمع إلى المحادثة، قال الفتى للطرف الآخر: سيدتي، هل يمكنني العمل لديك في تهذيب الحديقة؟ أجابت السيدة: لدي من يقوم بهذا العمل، قال الفتى: سأقوم بالعمل بنصف الأجرة التي يأخذها العامل عندك، قالت: أنا راضية به، ولا أريد استبداله، فألح قائلًا: سأنظف لك أيضًا ممر المشاة والرصيف أمام المنزل، فقالت: لا، تبسم الفتى وأغلق الهاتف! تقدم صاحب المحل الذي كان يستمع إلى المحادثة، وقال للفتى: لقد أعجبتني هِمَّتك العالية، وأحترم هذه المعنويات الإيجابية، وأعرض عليك فرصة عمل لدي في المحل، أجاب الفتى الصغير: لا، وشكرًا لعرضك، كنت أتأكد فقط من جودة عملي الذي أقوم به حاليًّا؛ لأنني أنا الذي أعمل عند هذه السيدة التي كنت أتكلَّم معها.

••••


كان رجل يعمل نجارًا - وكان مبدعًا متقنًا - طلب من رئيسه في العمل أن يُحيله على التقاعد؛ ليعيش بقية عمره مع زوجته وأولاده، فرفض ورغَّبه بزيادة راتبه، إلا أن النجار أصرَّ على طلبه! فقال له صاحب العمل: إن لي عندك رجاءً أخيرًا، وهو أن تقوم بالإشراف والرعاية على هذا المنزل الأخير، وستحال إلى التقاعد، بعد ذلك وافق النجار على مضض، وبدأ العمل، ولعلمه أن هذا العمل هو العمل الأخير، لم يحسن الصنعة، ولم يتقن العمل، وأسرع في الإنجاز، دون الجودة المطلوبة، ودون إبداعه المعتاد، فلما أنهى العمل سلَّم صاحب العمل مفاتيح المنزل، وطلب منه السماح بالرحيل، إلا أن صاحب العمل قد استوقفه، قائلًا: إن هذا المنزل هدية لك مقابل سنين عملك في المؤسسة، فصعق النجار من المفاجأة، وندم على الإهمال؛ لأنه لو علم أنه سيؤسس منزله، لأخلص العمل وأتقن الأداء، فتأمل شقاء هذا وسعادة ذاك واعتبِر.

••••

 

كيف يجاهد الإنسان نفسه على إتقان العمل؟

إن مما يعين العبد على إتقان العمل أن يستشعر رؤية الله تعالى لعمله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].

كما أن الإخلاص لله تعالى سرٌّ بديع من أسرار الإتقان، وتلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله جبريل عن الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ (رواه مسلم).

فإذا كان الإنسان لا يتقن إلا إذا كان رئيسه في العمل فوق رأسه، فقد مات الضمير ودفن الإخلاص!