د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
إن الإتقان والجودة في أداء الأعمال صفة نبيلة، وغاية سامية يقوم بها من حسنت أخلاقه، وسمت نفسه، واحترم ذاته، وهذه الصفة في المقابل تجعل المتصف بها مكان التقدير والاحترام، سواء كان المتصف بها إنساناً، أو مجتمعاً، أو أمة.
والإتقان في كل شيء صفة من صفات الرحمن جل جلاله، قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ ، أي أَحْكَمه، وقال قتادة: معناه أحسن كل شيء، والإتقان الإحكام، يقال: رجل تَقِن، أي: حاذق بالأشياء.
وفي هذه الآية الكريمة إشارة من الله تعالى على أهمية الإتقان والإحكام، وقد وردت في السنة الشريف أحادث كثيرة تؤكد على مفهوم الإتقان، فَعَنْ أُم المُؤمِنينَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلَا أَنْ يُتْقِنَهُ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا، وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
وهذا الحديث الشريف يؤكد على ارتباط القوة بالإيمان في كل ما ينفع، مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وعدم التكاسل، وحسن التوكل، والاستعانة بالله تعالى، وهذه كلها من آليات، وأسس إتقان العمل وجودته.
ويتضح مما ذكر آنفاً، إن الإتقان والجودة في كل شيء خُلق إسلامي رفيع اتصف به الخالق جل جلاله في إحكامه وإتقانه لكل شيء، ودعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة، وطبقه واقعاً ملموساً في حياته: في عباداته، ومعاملاته، وكل أعماله، وأقواله، وحركاته، وسكناته صلى الله عليه وسلم يتجلى فيها خُلق الإتقان.
ومن مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليمه لأمته أهمية الإتقان في العمل، فعَنْ أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني).
وفي هذا الحديث الشريف توجيه نبوي كريم في غاية الأهمية لأمته بالإتقان في العمل، بعدم الغش في كل عمل يقوم به المسلم، سواء رآه الناس أم لم يروه. وهذه المعاملة عامة لجميع الناس، لأن لفظة (غَشَّ) جاءت عامة فتشمل كل إنسان مسلم، أو غير مسلم، ويقابل كلمة الإتقان كلمة الإحسان التي وردت في حديث جبريل - عليه السلام - المشهور، وهو: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
إن المشاهد اليوم لأكثر المجتمعات الإسلامية يلحظ ضعف الإتقان والجودة في أغلب الأعمال، فمن ذلك على سبيل المثال: عدم الاهتمام بالمحافظة على ساعات العمل، بالتأخير، أو الخروج، وتركه دون أي مبرر، أو التقصير في أدائه بالجودة المطلوبة، حتى أصبح ذلك سمة لكثير من المجتمعات الإسلامية، وقد سمعنا أن بعض الشركات، والمؤسسات الإسلامية تحرص على تشغيل موظفين من خارج البلاد الإسلامية لأفضليتهم في أداء أعمالهم، مع محافظتهم واهتمامهم بساعات العمل.
ومن الأمثلة أيضاً على عدم الإتقان والجودة: عدم النظافة في المطاعم والمأكولات، مقارنة بالمطاعم، والمأكولات الغربية، وكذلك ضعف الكثير من الصناعات، وإنشاء المباني، وكم سمعنا، وقرأنا عن مبان لم يكتمل بناؤها، أو اكتملت، ثم بعد فترة وجيزة تصدعت، وتهدمت، أضف إلى ذلك صور الغش، أو التزوير، أو أي نوع من أنواع الفساد الإداري.
ومما يحز في النفس أنك ترى بعض المسلمين المدعين للالتزام، والتمسك الظاهري بالسنة غير مكترث بالإتقان والجودة في عمله، فتراه مقصراً في أداء عمله، ومقصراً في الاهتمام والعناية بأولاده، ومقصراً في حقوق والديه، إلا في حق يخصه، فتراه يضرب له كل حيلة من قول وفعل، حتى يناله، وهؤلاء ضررهم كبير على الأمة، ويحتاجون إلى إعادة توجيه، وإرشاد لتقويم سلوكهم.
وقد ترى أحياناً بصيص أمل في بعض المجالات الفردية، أو الجماعية تهتم بالجودة والإتقان، كمنتج معين لبعض الشركات، أو تقديم خدمات معينة، ولكن تفاجأ للأسف الشديد بعد فترة قصيرة، بعدم الاستمرار في هذه الجودة بسبب ظروف مادية، أو ظروف إدارية، وكما يقال الوصول إلى القمة سهل، ولكن الأصعب المحافظة عليها، وقد تلحظ هذا في مجال الرياضة، فتشاهد بعض اللاعبين يصل الواحد منهم إلى القمة في بداية حياته، ولكن ما يلبث أن يتوارى بسبب عدم المحافظة، والاعتناء بما وصل إليه!!
إن الإتقان والجودة، اليوم ينصرف بالكلية، ويتجه نحو الدول المتقدمة في أوربا، وأمريكا، وبعض دول آسيا، كاليابان، وكوريا، وبعض المنتجات الصينية، بل أن بعض المنتجات إذا عرفت أنها من دول معينة كألمانيا، أو إنجلترا، أو اليابان، فإنك تقوم بشرائها دون تدقيق، حتى وإن زادت تكلفتها لأن النفوس في العادة تميل إلى تقبل الأشياء الطيبة، والجيدة، وتنفر من الأشياء الرديئة.
وقد سبق أن قرأت نصاً في مجلة البيان، يقول: إن " العقيدة البروتستانتية تحث على الإخلاص في العمل، والحث على الإتقان فيه، حتى صارت الصناعة الغربية آية في الإتقان والجودة.
ونحن المسلمين اليوم نمتلك أفضل عقيدة، وأفضل تشريع، وفيهما كل الخير والفلاح للبشرية، وتوجيهاتهما السامية تحض على العمل الجاد، والإتقان في كل الأشياء، ولذلك يجب علينا أن نعيد حساباتنا، ونرتب أوراقنا من جديد في إعادة الثقة في نفوس شعوبنا، ونرسم الخطط، والاستراتيجيات، ونبحث بشكل دقيق عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ضعف الإتقان والجودة في أعمالنا، لتكون انطلاقتنا بإذن الله تعالى مدروسة، ومتقنة.
إن هذا التطلع والأمل ليس بعيد المنال، لأن الله تعالى جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم الخيرية، ومجتمعاتنا الإسلامية بحمد الله تعالى زاخرة بكل الموارد المادية، والبشرية التي تجعلها بإذن الله تعالى قادرة على المنافسة في التقدم، والرقي، قال الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.[8]
وهذه الآية عجيبة، ومعجزة ربانية تحتاج إلى تأمل، ونظر، وتطبيق!! يقول السعدي - رحمه الله -: هذا من وعود الله تعالى الصادقة، فإنه وَعَدَ من قام بالإيمان، والعمل الصالح من هذه الأمة أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يُمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان، والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار، والمنافقين في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان، والعمل الصالح.
إنني أتمنى وأدعو الله تعالى أن يحرك قلوب المسلمين، فقلوب العباد بين أصبعي الرحمن سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، بأن تنهض أمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم من غفوتها، وتصبح أمته هي الأمة التي توصف بكل الصفات الحسنة، والخصال الحميدة التي دعا إليها ديننا الحنيف، ومنها الجودة والإتقان للصناعات والأعمال، حتى يُصبح شعاراً بارزاً، ومعروفاً يتبادر إلى كل الأذهان في الشرق والغرب، وسائر أقطار الأرض كلها بأن هذا المنتج، وهذا العمل، وهذا الاختراع، وهذه الخبرات والأفكار مصدرها بلاد الإسلام، وليس ذلك على الله تعالى بعزيز، فهو القادر، والفعال لما يريد.
منطلقات وأسس مهمة:
إن مفهوم الإتقان والجودة يحتاج إلى جهود، وآليات حتى يتم تفعيله في المجتمعات الإسلامية، ومن المنطلقات المناسبة لذلك، ما يلي:
أولاً: غرس تقوى الله تعالى في نفوس المسلمين، والخوف من عقابه، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة مع المسلمين، وغير المسلمين، فقد وعد الله تعالى من آمن به، وعمل صالحاً، بالاستخلاف، والتمكين في الأرض.
ثانياً: العناية التامة بالتنشئة منذ الصغر، فتكون للأسرة، والمدرسة، دور مهم للغاية في تربية، وتدريب الأطفال على إتقان وجودة كل شؤونهم، والتأكيد عليهم بأن هذه من أخلاق الإسلام، ومن أخلاق المسلم المتحضر الذي يكون مِعْول بناء في مجتمعه وأمته.
ثالثاً: إن سر تقدم الدول المتقدمة، هو نظام المحاسبة الدقيق لديهم في كل المستويات، وعلى مختلف الأصعدة، حتى الوالدان إذا قصرا - ولم يتقنا - تربية أولادهما، أو تجاوزا الحدود المعروفة في التربية، فيتم محاسبتهم من قبل جهات متخصصة في الدولة.
ولذلك يجب أن تكون هناك قوانين، وأنظمة صارمة، وفاعلة لمحاسبة المقصرين، والمفرطين، والمتجاوزين للحدود على كافة الأصعدة، والمستويات، تتولاها هيئات، وأجهزة إدارية ذات كفاءة عالية مستقلة، تقوم بالإشراف والمتابعة، ولها من الصلاحيات ما يمكنها من أداء رسالتها.
رابعاً: القيام بإرسال بعثات معينة وفق خطط مدروسة ومتقنة للنخب المتميزة من شباب المجتمع للاطلاع على ثقافة الدول المتقدمة، في حرصهم على الإتقان والجودة والتميز في شؤونهم.
خامساً: إمكانية استضافة بعض الوفود من الدول المتقدمة لتقديم الخبرات، والأفكار، والمحاضرات، والدروس في أساليب إتقان الأعمال والتميز لديهم.
سادساً: القيام بحملات إعلامية في كافة وسائل الإعلام، وفي كافة المؤسسات التربوية للتأكيد على مفهوم الإتقان والتميز، وتقديم الجوائز التشجيعية المادية والمعنوية.
سابعاً: الحرص على إبراز القدوات الحسنة في المجتمع المسلم، وهم كُثر ولله تعالى الحمد، والذين تميزوا بالإتقان والجودة في أعمالهم، وتقديمهم دروس، ومحاضرات لخبراتهم، وأسلوب أعمالهم، ونصائح، وتوجيهات تفيد الأجيال القادمة.