رجائي عطية
في عالم اليوم، الذي تنامى فيه الإنتاج في كل لون تناميًا هائلًا من حيث الكم والنوع والكيف، بات الإتقان والدقة عصب هذا الإنتاج ومفتاح مـا يفرضه قانون المنافسة على الجميع، سواء في طلب الجودة بعامة، أو في أفضليات التسويق المحلي والخارجي.
لا يقتصر طلب الدقة والإتقان على عالم الصناعة أو الإنتاج المادي بعامة، بل يكاد يتفق الناس اليوم، عاملهم وباطلهم، على أن «الإتقان» و«الدقة» هما قوام كل عمل مادي أو فكري أو أدبي.. بدونهما يفقد العمل المادي عناصر جودته وإتقانه وتميزه، مثلما يفقد العمل الفكري والأدبي روحه وجِدَّته وطرافته.. ربما لهذا الإتفاق كانت كلمة «الدقة» ومشتقاتها من أكثر الكلمات شيوعًا في زماننا!
الدقة والإتقان سجية إسلامية
هذا «المطلب»: الدقة والإتقان ، سجية إسلامية تأتي في إطار منظومة كبرى تحترم العمل والعاملين.. العمل الطيب هو حجة الإسلام إلى الدنيا التي أراد لأبنائه أن يكونوا فيها بعملهم في مكان الريادة تعبيرًا عن قيمه الأصيلة وإسهامًا مثمرًا في عمارة الدنيا وإثراء الحياة ونفع الإنسان..
لم يقبل الإسلام من المسلم أي عمل من قبيل تسديد «الخانات»، وإنما نبَّهه إلى قيمته والتفات الخالق عز وجل إليه، فورد بالقرآن المجيد: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة : 105).. تلفت هذه الآية أنظار المؤمنين إلى أن عملهم مراقب ومرئى ومشهود.. من الله تعالى ومن رسوله ومن المؤمنين.. فيدل القرآن بذلك على أن المنزلة عنده سبحانه وتعالى هي بالعمل للدنيا والآخرة: «وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (المطففين: 26).
هذا التنافس قوامه الإخلاص والإجادة. الإتقان هو روح العمل ومهجة الإسلام، وهو المدخل للإجادة وللدقة التي يكاد يتفق عليها الناس عاملهم وباطلهم!
ولكن!.. ما هي الدقة، وما هو الأداء الدقيق، صنعًا كان أو تعبيرًا، وهـل في مقدور الإنسان العادي أن يكون دقيقًا في غير حرفته أو مهنته أو في غير تخصصه أو فنه؟!
يبدو أن «الدقة» هي أصلًا المطابقة بين تصورنا الداخلي للموضوع والصورة التي نقوم بأدائه بها، وبين نموذج خارجي استوحيناه أو مفترض اتباعه اختيارًا أو جبرًا، تصورًا وأداءً.. فالدقة تحمل دائمًا اهتمامًا بالضبط وبالانضباط وبالحساب والمسئولية، ولذلك فلا توصف آلام المريض بالدقـة، أو يوصف بهـا غضب المشترى لسوء حالة المبيع، أو حـزن الوالـد على رسوب ولده في الامتحان، أو استياء الناس من غلاء الأسعار، أو ازدحام الطرقات في المدينة، أو عدم نجاح الحكومة في مكافحة تجارة المخدرات أو فشلها في حل مشكلة المجاري!
حق الإنسان في مقاييس منضبطة للخدمات
هذه صور لا توصف بذاتها بأنها دقيقة، وإنما المراد أن يعالج كل منها بدقة، سواء من جانب الطبيب أو الخبير أو المدرس أو الاقتصادي، أو من جانب الاختصاصيين في مكافحة المخدرات وغيرها مما يتولاه أهل الاختصاص.. لأن هؤلاء جميعًا هم الموكول إليهم العمل والمطلوب منهم في أدائه أن يلتزموا الحساب والدراسة والضبط والانضباط والمسئولية!
نعم، من حق الإنسان العادى أن يضيق بما يؤدَّى إليه بغير دقـة وإتقـان.. ومـن الـوارد أو المحتمل أن يتألم وأن يغضب وأن يحزن وأن يستاء، وأن يعبر عن ذلك علنًا، لأنه فى النهاية هو الذي يكتوي بعدم دقة أداء الفنيين والاختصاصيين أو بسوء تشخيصهم أو سوء علاجهم وتدبيرهم أو قلة تبصرهم للعواقب أو ضيق أفقهم أو قصور وتخلف معلوماتهـم وأدواتهم ومعداتهم. ولكن لا ينبغى له أن يتجاهل الفـارق بين العـادي وبين الفنـي المتخصص أو المحترف أو صاحـب المهنـة أو الحرفة أو الفن، فالإنسان العادي يحتكم عادة إلى خبراته بشئون الدنيا والحياة وإلى معلوماته العامة، وشكواه مهما بلغت من الحق لا تُعتبر تشخيصًا طبيًا أو هندسيًا أو فنيًا أو اقتصاديًا أو قانونيًا أو دستوريًا للمشكلات، ولا يمكـن أن يُبنى عليهـا عـلاج لمتطلبات أو لمشكلات أو معضلات الأفراد أو الأمة أو الدولة أو للمشكلات الدولية!
إنمـا قـد تُطلب الدقـة من الإنسان العادي في كثير مما يعترض حياته، فيكون مطالبًا بالتزام الدقة في اتباع الأنظمة وتطبيق التعليمات الواجبة الاتباع، وهـذه الدقـة تمضي في سلاسة وسكون بلا ضجيج.. لا نسمع لهـا صوتًا، لأنه لا يصحبها سمعة أو شهرة مما يجري وراءه الناس طلبًا للصيت أو حبًا في الظهور.. كما لا يصاحبها قيادة أو زعامة محتملـة أو قريبة الاحتمـال ممـا يرنو إليه معظم الناس، بل يصحبها فـي أحيان كثيرة التعرض إذا أفلتت الدقـة لأضرار تتنوع تبعًا لما أعوزته الدقـة فيه، وقـد تبلغ به حد التعرض للجزاءات الإدارية أو للعقوبات الجنائية..
لا تقتصر الدقة على الإنتاج
لا يستغنى الإنسان العادي عن الدقة في كل شئون حياته، ويدفع ثمن مفارقتها إذا ما خولفت مثلًا تعليمات تعاطي الأدوية بدقة في مواعيدها الدقيقة المقررة، أو خولفت تعليمات تطعيم الأطفال في أوقاتها المحددة في السنوات الأولى من أعمارهم! أو كما يحصل عند مخالفة الإرشادات الفنية المتعلقة بالمحاصيل والمواشي والدواجن والنحل وغير ذلك من الخسائر والأضرار!!
لا تقتصر «الدقة» مثلما لا يقتصر «الإتقان» على العمل أو الإنتاج المادي، فدقة التعبير «مطلب» أساسي أيضًا في العلوم والآداب والفنون، بل هي مطلوبة في الحديث وفي الكتابة، يعترض هذه «الدقة» ما قد يدور فـي أخـلاد البعض أنه حـر فيمـا يقـول أو يكتب من قيود الضوابط أو المسئولية، وهو ظن ظاهره الصحة على اعتبار أن الإنسان يمتلك حرية التعبير كتابة أو شفاهة، ولكنه ليس صحيحًا على إطلاقه، لأن التعبير كتابة أو شفاهة باب واسع يصب في روافد متعددة، منها ما يمس الشئون العامة التي تهم المجموع، ومنها ما يمس حياة شخص أو أشخاص من حقهم صيانة حيواتهم الشخصية من الاقتحام والتلصص، أو حماية سمعتهـم وعرضهم وما لهم من الإيذاء من رذاذ سوء التعبير متعمدًا كان أو غير متعمد.. الدقة مطلوب أساسي حين تمس الكتابة أو القول حياة الأفراد أو الجماعات أو حياة المجتمع بعامة في حقوق أفراده وحقـوق مجموعه!
ليس كثيرًا على الإنسان أن يبذل قدرًا معقولًا من الاحتياط في كتابته أو حديثه في أمثال تلك الأمور الجادة المؤثرة فى حيوات الناس وقوام المجتمع، وليس كثيرًا أن يتعرض الجانح الشارد والمشتط للمساءلة حين لا يحتاط لحقوق وكرامات المجتمع والناس، وحين يجاوز المألوف في الترخص إلى الجموح والشطط وقلة الانضباط التي قد توصف عندئذ بعدم الدقة أو بالتشهير أو بالمساس بالشـرف والاعتبار أو بالطعن على النظـم المقررة أو بانتهاك الآداب أو بترويج الأخبار الكاذبة أو الشائعات أو الأفكار الهدامة!
مراعاة الإتقان مسؤولية الأفراد
فموضوع الدقة المطلوبة في الكتابة أو الحديث هو الاحتياط الواجب العاقل من الوقوع في الأخطاء المؤذية للغير المفترض في كل فرد أن يتحاشاها ويتجنب الوقوع فيها، صيانة لحقوق وكرامات الآخرين، وانصياعًا لضوابط المساءلة التي تقوم على إيجاد توازن لازم وحتمي ومطلوب بين الكلمة منطوقة أو مكتوبة، وبين مسئوليتهـا..
المقاييس في هذه الأمور معيارية كلها، وقد يدق ويصعب التفريق بين المباح وبين غير المباح أو المحظور في بعض الصور بالنظر لتغير الأذواق والأخلاق والمثل تبعًا لتغير الزمان أو المكان، أو لتطور الجماعة فكريًا وماديًا وشيوع اتجاهات جديدة فيها يجب أن يُحسب حسابها في توقع وعي والتزام الأفراد لتلك المعايير!
الدقـة وإتقـان العمل واجب عام لا يتخصص بعمل دون عمل، ولا بسلوك دون سلوك، ولا بتصرف دون آخر.. وإنما هو طبع عام وسجية مانحة تعطي ثمارها في كل ما يؤديه الإنسان من عمل ويلتزم فيه واجب الجادة والدقة والإخلاص والإتقان.. هذا الواجب العام لا محل لتخصيصه بلا مخصص، ولا لتقييده بلا مقيد.. وما لنا نقيده ونحاصره بينما التزامه كفيل باستقامة الأمور وتعطير الحياة بقسمات الكمال والجلال والجمال.. سبحانه وتعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملًا وأكثر إجادة وإخلاصًا وإتقانًا في عمارة الحياة.