بقلم: جمال ماضي
يقول الله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} النمل : 88.
ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"
فالإتقان في معناه العام: إحكام الشيء، وقالوا: الإتقان هو أداء عمل ما بإحكام دون خلل، فالله تعالى خلق العوالم وفق قوانين، هي غاية في الدقة، ونهاية في الإتقان، فكل متقن عامل، وليس كل عامل متقناً، حتى يختبر كل واحد منا نفسه، فهو الوحيد الذي يحكم على قوله وفعله وسائر عمله، إن كان متقناً أم لا.
يقول على بن أبى طالب: " قيمة كل امرىء ما يحسنه "، فما قيمة امريء في الحياة، لا يحسن العمل ولا يطوره ولا يبدع فيه ولا يحكم أمره، أي بمعنى آخر لا يتقنه.
والإتقان هو طريق التفوق في الحياة، والتميز على الناجحين، لأنه أحد وجهين لعملة نادرة في الحياة، وهي التفوق والتميز، فكيف يحدث ذلك؟
لكي نجيب على هذا التصور أو على هذا السلوك العملي، تعال نتعرف في إيجاز على الفرق بين الإتقان والإحسان.
فالإحسان:
هو قوة كامنة داخل النفس, أما الإتقان: فهو الصورة الظاهرة لهذه القوة، بالتالي لا يتحقق تفوق إلا باستكمال هذين الوجهين: قوة داخلية تدفع وتشجع، وقوة خارجية: هي ثمرة هذه القوة الداخلية، مما تعطيه من طاقة وزاد.
فالإحسان في الإصطلاح الاتيان بالمطلوب شرعاً على وجه حسن، وكما بينه النبى صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) والإتقان هو بالفعل ثمرة الإحسان, وعليه فالإتقان يقوي بقوة الإحسان, ويضعف بضعفه, ولذلك فالإتقان في كل شيء هو الأداء على وجه حسن, بمعني بذل كل الوسع والاستطاعة, للتغلب على كافة العوائق, والأخذ بكافة الأساليب خاصة الحديثة منها.
الإتقان والانجاز
حتى الإتقان يحتاج إلى توضيح، فقد يظن البعض: إن مجرد الإنجاز هو الإتقان، ولكن هناك أيضا فرق بين الإتقان والإنجاز, فالإنجاز هو إتمام المهمة أو العمل أو المسئولية كالمتفق عليه، في حين إن الإتقان هو الإجادة في إتمام المهمة وبأفضل ما يمكن, أي محاولة للإكمال.
الإتقان طريق التفوق
ومن ثم فالإتقان هو طريق التفوق في الحياة، ونضرب أمثلة قرآنية تقرب لنا هذه الحقيقة:
أولاً: في قوله تعالى:
{ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}القصص : 26.
فالقوي تشير إلى الإتقان، والأمين تشير إلى الانضباط الداخلي، والقوة الكامنة.
ثانياً: في قوله تعالى:
{قال اجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم} يوسف : 55.
فالعلم إشارة إلى الإتقان، والحفيظ إشارة واضحة إلى الانضباط الداخلى والإحسان.
أنواع الإتقان من ناحية الإنجاز
أولاً: إتقان الهيئة والشكل
لما كان الإتقان هو الصورة الظاهرة لأي عمل أو مهمة، فوجب على أهل الإتقان استكمال كل ما هو يسر النظر، ويسد العيوب في أي ثغرة قد تتواجد في الشكل أو الهيئة, لقد وجدت ثغرة صغيرة في مقبرة سعد بن معاذ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببنائها, وقد تساءل من حضر، هو ميت فهل تنفعه أو تضره؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " رواه البيهقي, فليس الأمر له ارتباط بميت أو حيى، أو فائدة أو ضرر، وإنما إتقان, لأن الله يحب الإتقان.
ثانياً:إتقان الوقت والزمن
فالإتقان أداء العمل بإحكام دون خلل، ولذلك فالخاسر الذي لا يوظف السنة الربانية، أو لا يتخلق بها في عمله:
الدهر ساومني عمري فقلت له == ما بعتُ عمرى بالدنيا وما فيها
ثم اشتراه بتدريج بلا ثمنٍ == تبتْ يدا صفقةٍ قد خاب شاريها
وقد قيل: ( من اشتغل بغير المهم فقد ضيع الأهم )
فالوقت فرصة للإتقان، فإن عمرك وقتك الذي أنت فيه، فكيف تتقن وقتك؟
هذا ما اختصره المتخصصون في التالي:
-إنجاز الأعمال في أوقاتها المحدودة.
-احترامنا للمواعيد والتزامنا بها.
-مراعاتنا للآخرين عبر المداراة والاحترام والتعاون.
- تكيفنا مع ظروف العمل في الشدة والرخاء.
- الحفاظ على نسبة جيدة من التواصل مع الأفراد عبر اللقاءات أو الاتصالات.
- حدّد قدراً من الوقت للقاءات والاتصالات مثل: 3 دقائق لكل مكالمة, وساعة للقاء, وفق الأهمية.
- عدم التخلي عن الثوابت والمبادئ في التعاملات مع الغير، حتى لا يكون صاحبها فريسة للاهتزاز أو الهزيمة.
وعلى أي حال، حتى نحظى باهتمام الآخرين، ونوفر لأنفسنا فرصاً جيدة للتفاعل مع المجتمع، يجب أن نراجع طرقنا في التعامل مع الوقت، فإتقانه هو السبب الوحيد في تنظيم علاقاتنا مع الآخرين.
ثالثاُ: إتقان المعاملات والعلاقات
فإذا نجحنا في إتقان الهيئة والشكل ثم إتقان الوقت، استطعنا بمهارة أن نتقن فن العلاقات والمعاملات بالناس، الذي يعزز وجودنا في المجتمع، لذا لا تدع العمل المتواصل يسلب منك أحلى ما في الحياة، في أن تتذوق ثمرة جهودك، أو أن تشعر بلذة العمل، أو أن تستمتع بحياتك الأسرية والزوجية والاجتماعية.
ومن صور إتقان المعاملات، ما اتفق عليها الخبراء بهذا المجال، فقالوا:
-انتهز الفرص فأقدار الله لا نصنعها بل هى فرص تأتينا، فالذنب ليس ذنب الأوقات, بل ذنب الإنسان نفسه.
-حدّد أولوياتك أولاً ثم التزم بها ما أمكن، ومن لم لا يعرف أولوياته ولا يلتزم بها ضيع عمره فيما لا فائدة منه.
-تنظيمك الشخصي، وهذا يتطلب تغيير عاداتك الشخصية، مثل التسوق والجلوس مع الأصدقاء، وقضاء أوقات في النادي، وهذا يحتاج إلى مراقبة دائمة لحياتنا اليومية.
-شارك الآخرين وأشركهم في أعمالك، تستمر في أعمالك, ولا ترتبط بشخصك سلباً أو إيجاباً، فالمشاركة تدفعك دائما نحو التفاؤل والطموح والتجديد.
-زج بنفسك في الأعمال المشتركة, تقوي صلاتك بالمشاركين، وتنجز المهام، وتحقق التفاهم معهم، وتجعلك تتقن العمل، وتحصل على نتائج أفضل، فيد الله مع الجماعة.
كيف حقق النبي صلى الله عليه وسلم الإتقان؟
لقد تبين لنا أن حديث الإتقان المشهور قاله النبى صلى الله عليه وسلم في حادثة وفاة سعد بن معاذ في سد ثغرة في المقبرة، حتى يتحقق في فهم المتقنين أن الإتقان سلوك لا يرتبط بحجم العمل أو شكله أو أهميته، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها تدعو إلى الإتقان وممارسته، قولاً وفعلاً.
ومن ثم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم الإتقان للناس منذ الصغر، فيقول للغلام: " يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك "
ويحذر من أى انحراف يضر بإتقان الصف المؤمن، ففي فتح مكة، كان سواد منحرفاً بجواده عن بقية الجيش، فوخزه النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه قائلاً: سوى الصف يا سواد.
وفي غزوة أُحد كان الدرس قاسياً حتى نتعلم نحن كيف نتقن العمل وإلا ينهار الهدف، لقد كان الأمر واضحاً وصريحاً من النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتركوا أماكنكم ولو رأيتم الطيور تتخطفنا".
وبعد دفن سعد بن معاذ في مشهد حضرته الملائكة، تقول أم سعد: هنيئاً لك الجنة، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا أم سعد لا تحتمى على الله الجنة، فسأله الصحابة: كيف ألا يذهب سعد إل الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم إن القبر ضم سعداً ضمة، قالوا: ولم يا رسول الله؟ فقال: لأنه كان في خلقه مع أهله سوء ".
فالإتقان في كل جوانب الحياة، وليس في شأن دون آخر، فما فائدة أن يتقن الإنسان مهنته، ولا يتقن حاله مع نفسه، أو يتقن حاله مع الله, ولا يتقن حاله مع الناس، فالإتقان جملة واحدة لحياة سعيدة بكل جوانبها.
حتى الإتقان في دعوة الآخرين بالتأنى والتمهل وعدم العجلة والتسرع في الحكم عليهم، فقد وقع سهيل بن عمرو أسيراً في أيدي المسلمين يوم بدر، وكان خطيباً مفوهاً بليغاً، فأراد عمر بن الخطاب أن يُقلع أسنانه الأمامية حتى لا يخطب ضد المسلمين، ويحرض الأعداء على القتال، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: دعني أنزع ثنتي سهيل، فلا يقوم علينا خطيباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها فلعلها أن تسرك يوماً ". وفي فتح مكة أسلم سهيل، وحسن إسلامه، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم, أراد بعض أهل مكة أن يرتدوا عن الإسلام، فقام سهيل يخطب فيهم، ويذكرهم بالله، ويحثهم على الثبات، والتمسك بالدين، فسمعوا له وأطاعوا.
فأصبح التأني جزءاً أصيلاً من الإتقان، نحو تحقيق الهدف، ففي الحكمة:
( من تأنى نال ما تمنى )، يقول على بن أبى طالب: "لا تطلب سرعة العمل، واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما ينظرون إلى إتقانه وجودته".
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن من الإتقان السرعة في الخيرات والعجلة بها، ففيما رواه أبو داود قول النبى الحبيب صلى الله عليه وسلم: "التؤدة في كل شيء إلا في عـمل الآخـرة".
تحقيقا لقوله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } آل عمران : 133.
وكان النبى يوجه أصحابه نحو المعالي، متطلعين إلى النجاح في هذه الحياة، بإتقان عملهم والثبات على هذا الخلق، فقد جاءه الصحابى الجليل حكيم بن حزام وسأله أن يعطيه من الأموال، فأعطاه، ثم سأله مرة ثانية فأعطاه، ثم سأله مرة ثالثة فأعطاه، ثم قال له معلماً: " يا حكيم إن هذا المال خضر حلو (أي أن الإنسان يميل إلى المال كما يميل إلى الفاكهة الحلوة اللذيذة) فمن أخذه بسخاوة نفس (بغير سؤال ولا طمع) بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيـه، وكان كالذي يأكل ولا يشـبع، والـيد العـليا (التى تعـطي) خيـر من الـيد السـفلى ( التي تأخذ)" متفق عليه.
فأصبحت القناعة معلماً من معالم الإتقان، في الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلاً، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه" رواه مسلم.
هى القناعة لا ترضي بها بدلاً == فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها == هل راح منها بغير القطن والكفن
وإذا كان إتقان الشيء هو إحكامه، فأقرب المعاني العملية في حياة الإنسان التى تحقق الإتقان بمعنى الإحكام، هو الاعتدال، ولقد قالها النبى صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي حينما علم بقوله لأبى الدرداء: "إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه ". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان" البخاري؛ فالاعتدال في جوانب الحياة، هى صورة مشرقة من صور الإتقان، وكان هذا ديدن النبى صلى الله عليه وسلم حينما قال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني" البخاري.
والاعتدال هو التوسط والقصد، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: " القصد القصد تبلغوا" (أي الزموا التوسط في تأدية أعمالكم يتحقق ما تريدونه على الوجه الأتم ) رواه البخارى
فالإتقان في الإنفاق هو الاعتدال دون إسراف أو تقتير، والإتقان في تناول الطعام والشراب هو الاعتدال، والإتقان في النفقة هو الاعتدال فلا ينهك جسده ولا يجعل عمله يؤثر على عبادته أو واجباته الحياتية.
فالاعتدال من سنة النبى صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتقن حياته، يقول معاوية: "ما رأيت إسرافاً في شيء إلا وإلى جانبه حق مضيع".
وطالبنا النبى صلى الله عليه وسلم بالإتقان في الصلاة، من أجل تحقيق الإتقان كعادة في حياتنا، بهذا التدريب اليومي في أوقات اليوم المختلفة سواء كان فرضاً أو نافلة.
فمن الإتقان عدم التهاون في الأوقات، وعدم الانشغال بالأشكال دون الجوهر والضروري، وعدم الدقة في اختيار التوقيت المناسب في إنجاز العمل، وعدم اكتمال العمل والانشغال بغيره في نفس الوقت، وعدم ترتيب العمل عند تنفيذه ترتيباً منطقياً منظماً، وعدم المبادرة في أول الوقت لأداء العمل وتأخيره إلى اللحظة الأخيرة، أرأيت كيف أن الصلاة تنظم حياة الإنسان في جوانبها كلها، وليس في جانب دون جانب؟.